االحملة الصليبية السابعة (حملة لويس التاسع على المنصورة )




 الحملة الصليبة السابعة 
(647-1249)

مقدمة:

كان وقع استيلاء المسلمين على بيت المقدس سنة1244م للمرة الثانية ثقيلا على الغرب الأوربي ، وأحدث دويا هائلا هناك، لا سيما وقد اعتدى الخوارزمية المسلمون على بعض أماكن العبادة والمواضع المقدسة " ، ثم اقتحم الصالح نجم الدين أيوب بعد ذلك مدينة عسقلان وسواها بالأرض، ولهذا دعا البابا أنوسنت الرابع إلى حملة صليبية جديدة ، ونوقشت هذه القضية في مجمع ليون في صيف سنة ۱۲۹۰ م، الذي أوصي بإنفاذ حملة جديدة إلى الشرق") ، واستجاب الغرب الأوربي سريعة لنجدة صليبي الشام، خاصة الملك الفرنسي لويس التاسع .

ويبدو أن أهداف البابا أنوسنت الرابع بدعايته لهذه الحملة، واستجابة الملك الفرنسي لويس التاسع - للقيام بها"، لم تقتصر على الرغبة في خدمة الصالح الصليبي المباشر، واسترجاع مدينة بيت المقدس فحسب، بل تعدت ذلك وانطوت أيضا على فكرة اجتذاب القوة التي هدمت دولة الخوارزمية الاسلامية ، أي قوة المغول الوثنيين إلى حلف صليبي مغولي ولقد تعددت وتشعبت أسباب هذه الحملة، بين رئيسة تنطوي على الدوافع الحقيقية القيامها وبين عوامل ثانوية ساعدت على التنفيذ .
ولعل أهم الدوافع الحقيقية التي أثارت المجتمع الغربي بعامة وشعور الملك الفرنسي بخاصة، وحفزت الجميع على الثأر، هي:
- تعرض الصليبيين في الشرق إلى المضايقات خلال النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي على يد الخوارزميين بشكل خاص.
- ضياع بیت المقدس، فقد استعادها الصالح أيوب بمساعدة الخوارزميين الذين نگلوا بسكانها المسيحيين، ونهبوا دورهم وأموالهم حتى أضحى وضعهم مقلقة من وجهة النظر الصليبية .

. لقد أنزل المسلمون ضربات قاسية بباقي الممتلكات الصليبية في بلاد الشام تمثل بعضها باستعادة الصالح أيوب طبرية وعسقلان حتى أصبحت باقي ممتلكاتهم ومعاقلهم مهددة بالخطر والضياع.
أما فيما يتعلق بالعوامل الثانوية، فلعل أهمها :
. لقد حدث أن مرض الملك الفرنسي لويس التاسع حتى أشرف على الموت، ولما أفاق من شدة المرض، نذر إن من الله عليه بالشفاء، أن يحمل الصليب ويذهب لغزو الأراضي المقدسة.
 لهدم الدولة الأيوبية في مصر والشام، وجعل الشرق الأدنى الاسلامي كله بين شقي الرحی، وفتح أبواب آسيا
- پرى بعض المؤرخين أن الملك الفرنسي حمل الصليب، وتعهد بشن حرب مقدسة لإنقاذ صليبيي الشرق إثر رؤيا ظهرت له أثناء مرضه فحواها أنه رأى فيما يرى النائم شخصين يتقاتلان، أحدهما مسلم والآخر مسيحي، وقد انتصر الأول على الثاني، ففر هذه الرؤيا بحاجة صليبيي الشرق إلى المساعدة، وأن الله أناط به هذه المهمة .

. كان للآثار والذخائر الدينية المقدسة التي حصل عليها لويس التاسع من يوحنا بريين الملك الأسمى لبيت المقدس، وبلدوين الثاني امبراطور القسطنطينية اللاتيني؛ أثر غير مباشر دفعه إلى القيام بحملته على مصر من أجل استعادة بيت المقدس.
. نتيجة لوقوع الكوارث بالصليبيين في الشرق، فقد أرسل هؤلاء السفارات إلى الغرب الأوروبي يلتمسون مساعدته كما أشرنا، وأنذروا الأوروبيين باحتمال ضياع ما تبقى من ممتلكاتهم إذا لم يلبوا نداء الاستغاثة .
- ساند البابا إنوسنت الرابع مشروع لويس التاسع، فدعا إلى الاشتراك في الحملة
لويس التاسع 

استعدادات التجهيز

استغرقت استعدادات الملك لويس التاسع ثلاث سنوات، إذ تقرر جباية ضرائب استثنائية للإنفاق على الحملة، وكان لا بد من تنظيم الحكومة طيلة مدة غيابه، فتقرر أن تتولى الملكة الوالدة الوصاية، أما في الخارج، فكان لزاما على الملك أن يحل بعض المشكلات وبخاصة إقناع ملك إنكلترا بالمحافظة على السلام أثناء غيابه ، وكانت علاقاته مع الامبراطور فريدريك الثاني بالغة الدقة بسبب موقف الأخير المعادي للبابوية من جهة، ولأنه والد کونراد الرابع الملك الشرعي لبيت المقدس من جهة أخرى، وليس بوسعه أن يدخل الأراضي الواقعة تحت سيطرته إلا بإذنه . وأجرى الملك الفرنسي مفاوضات مع جنوة ومرسيليا لتقديم السفن اللازمة لنقل أفراد الحملة إلى الشرق، أما البنادقة الذين تربطهم بمصر مصالح تجارية حيوية، فقد کرهوا ما حدث وعارضوا فكرة مهاجمة مصر.

عرج لويس التاسع في طريقه على جزيرة قبرس، فقد وصلت طلائع سفن الملك إلى ميناء ليماسول في 17 سبتمبر سنة 1248 م، فقضى بالجزيرة نحو تسعة أشهر من سبتمبر ۱۲۹۸ م إلى مايو ۱۲۹۹م)، حصل فيا على كميات وفيرة من المؤن وعلى مساعدات بشرية عظيمة من المحاربين، فضلا عن أنه استقبل في الجزيرة كبار زعماء الصليبيين في بلاد الشام وممثلي طوائف الاسبتارية والداوية وكثير من شخصيات الصليبيين في الشام ، وقام بمحاولة التوفيق بينهم وترتيب أمر الدفاع عن الصليبيين بالشام أثناء حملته على مصر ، كما أيقن الملك خلال تلك الاتصالات أن الطريق السليم للحصول على بيت المقدس ، هو البدء بغزو مصر، وأن مفتاح المدينة المقدسة موجود فعلا في مصر ، فلا معنى أن يستولي الصليبيون على بیت المقدس، ثم تخرج الجيوش من مصر لاجهاض كل ما أنجزه الصليبيون ببلاد الشام وفلسطين .

فضلا عن أن الهجوم على دمياط بالذات والاستيلاء عليها فيه محو للعار الذي لحق بالصليبيين في حملة جان دي برين، ويمكن استخدامها للمساومة مع الأيوبيين للمبادلة ببيت المقدس، بإلإضافة إلى أن الاستيلاء على دمياط بإمكاناتها البحرية والتجارية، يعطي الصليبيين فرصة مكافأة المدن الإيطالية التي أسهمت معهم بسفنها في نقل الجنود وعتاد الحملة". معنى ذلك أن نية الملك كانت متجهة إلى اتخاذ نفس الطريق الذي سلكته حملة جان دي برين مع
مع في ذلك تجاهل لصعوبات الطريق.
وأخيرا أبحر لويس التاسع من قبرس في مايو سنة ۱۲۹۹م، ووصل أمام دمیاط في 6 يونيو سنة ۱۲۹۹ م" ، على رأس جيش كبير بالغ المؤرخون كثيرا في عدده، فذهبوا إلى أنه بلغ نحو خمسين ألف محارب ، وإن أشارت المصارد الغربية إلى أنه تشكل من نحو ۲۸۰۰ فارس ، فضلا عن المشاة والبحارة وغيرهم من التابعين، مما يصل به إلى نحو ثمانية وعشرين ألفا من الرجال

سقوط دمياط في أيدي الصليبيين 

حينما أيقن الملك الصالح نجم الدين أيوب أن وجهة لويس التاسع هي مصر، سارع بالانتقال إليها من دمشق، على الرغم من أنه كان يعاني من آلام مرض الموت ، ولذلك حملوه على الأكتاف في محفة، فوصل إليها في أواخر إبريل سنة ۱۲۹۹ م) ، ثم انتقل مباشرة إلى أشموم طناح بالقرب من دكرنس الحالية ، حينما تأكد أن دمياط هي هدف الحملة، فاتخذ من أشموم طناح مركزا لعملياته المتوقعة مع الصليبيين، ونصب فيها معسكره ليكون في مواجهة الصليبيين حينما يصلون إلى دمياط، لا يفصله عنهم سوى بحمر أشموم).
ولما كان الصالح أيوب رجلا مريضا يعاني مرحلة متقدمة من مرض السل، ولم يعد بوسعه قيادة الجيش، فقد عهد إلى وزيره فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بتولى قيادة الجيش، وأمره بأن يمنع الصليبيين من النزول إلى البر
وصل الملك لويس التاسع إلى دمياط ليجد أن المدينة محصنة، وأن الجيش الأيوبي على أهبة الاستعداد لمنعه من النزول أمامها، لذلك قرر النزول على الضفة الغربية للنيل. وفي فجر (۲۲ صفر) بدأت عملية النزول، لكنها لم تتم بسهولة.

 إذ تصدي الجيش الأيوبي للقوات الصليبية، وحصل اشتباك على الشاطىء بين الجانبين اضطر المسلمون بنتيجته إلى الارتداد بفعل التفوق العددي للصليبيين ، وتكبدوا بعض الخسائر، وإذ استبد الذعر بالسكان وساد القلق والاضطراب أفراد الحامية ؛ قر فخر الدين يوسف الجلاء عن المدينة، وغادرها كل المسلمين بعد أن أشعلوا النار في سوقها، متوجهين نحو الجنوب إلى أشموم طاح، كما هرب بعض عرب كنانة الذين عهد إليهم الصالح أيوب بالدفاع عنها وتركوا أبواب المدينة منفتحة»، وفاتهم عند فرارهم أن يقطعوا الجسر الذي يربطها بالضفة الغربية للنيل، فأصبحت دمياط بذلك مدينة مفتوحة، فدخلتها القوات الصليبية في (۲۳ صفر / ۷ يونية) وتملكتها بغير قتال).

ابتهج الصليبيون باستيلائهم على دمياط بتلك السهولة، وفي المقابل ارتاع المسلمون لسقوطها، وحزن الصالح أيوب حزنا شديدة، فعنف مماليكه ووبخهم الإهمالهم في الدفاع عنها، وشنق ما يزيد على خمسين من رجال بني كنانة الذين تركوا مواقعهم الدفاعية وهربوا).
الواقع أن فخر الدين يوسف يتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية، فلو أقام في المدينة وثبت أمام الصليبيين لامتنعت عليهم، ويبدو أن هذا الأمير کان ذا نزعات سلطوية، وقد اعتقد بأن الصالح أيوب قد توفي نظرة لشدة مرضه، لذلك ترك دمياط وأسرع بالعودة إلى الجنوب لعله ينجح في ارتقاء السلطة.
ومهما يكن من أمر، فقد صادفت الحملة الصليبية السابعة نجاحة سريعة غير متوقع بالمقارنة مع ما حققته الحملة الصليبية الخامسة التي مكثت أمام دمياط تسعة عشر شهرة، بذلت خلالها جهدا شاقا حتى استولت على المدينة. ويذگرنا المقريزي بهذه المقارنة وهو يعجب من ذلك ويقول: «وقد كانت دمياط في أيام الملك الكامل لا نازلها الفرنج أقل ذخائر وعددة منها في هذه النوبة، ومع ذلك لم يقدر الفرنج على أخذها إلا بعد سنة عندما فني أهلها بالوباء والجوع، وكان فيها هذه المرة أيضا جماعة من شجعان بني كنانة، فلم يغن ذلك شيئة»

دخل لويس التاسع المدينة دون قتال في 6 يونيو 1249دون قتال واستولى على المون والذخائر والأموال وما لبث دوا بسرعة على تحويلها إلى مدينة ذات طابع مسيحي، فحولوا المسجد إلى كنيسة باسم نوتردام، وعينوا عليها أسقفة كاثوليكية، واختصت الطوائف الدينية الثلاث، الداوية والأسبتارية والتيوتون، بعمارة المدينة، وتم توزيع الإقطاعات على الأمراء والتجار، وظلت دمياط طوال أشهر صيف عام (747 ه/ 1249م) عاصمة الصليبيين في الشرق.
واشتد المرض على الصالح أيوب في هذه الأثناء بحيث لم يقو على النهوض من الفراش، فحمل في محفة إلى المنصورة كيما يشرف على تنظيم الجيش، وأرسل يطلب الإمدادات من القاهرة، وزحف البدو من الريف حتى بلغوا أسوار دمياط يقتلون كل شخص صليبي يلتقون به خارج الأسوار، فاضطر الملك لويس التاسع أن يقيم الحواجز، ويحفر الخنادق لحماية معسكره.

لم يبادر لويس التاسع بالزحف بعد سقوط دمياط، ولكنه أضاع نحو خمسة أشهر في المدينة (يونيو - نوفمبر ۱۲۹۹ م) ، انتظارا لانحسار الفيضان من ناحية ووصول الإمدادات التي طلبها وعلى رأسها أخوه ألفونس دي بواتيه من ناحية أخري ، ولكنه أمر أن ينقل معسكر الصليبيين إلى الضفة الغربية للنيل في مواجهة مدينة دمياط، ولم يبق في دمياط سوى كبار السن وبعض رجال الدين وغير القادرين على الحرب والنساء ، فكانت هذه الشهور الخمسة فرصة طيبة للأيوبيين التنظيم جيوشهم وجمع شملهم، والاستعداد لصد الصليبيين لو فكروا في الإتجاه جنوبا ناحية القاهرة، وإن لم تخل هذه الفترة من هجمات المسلمين على معسكر الصليبيين وإحداث بعض الخسائر في رجال الملك الفرنسي . وأضرت هذه الفترة الطويلة من التراخي الصليبيين .

 فقدواصل المسلمون الاغارة على المعسكر الصليبي وأسر بعض الجند وإرسالهم إلى القاهرة حتى ترتفع الروح المعنوية للناس واضطلع العربان والبدو بدور كبير في هذه الإغارات إذ قال روثلان : "وكان البدو يأتون ليلا لسرقة الخيول والقطع رءوس الرجال ، ويقال أن سلطان مصر كان يعطي على كل رأس صليبي تجلب له عشرة بيزنط" وبلغت هذه الإغارات حدا أقلق الملك لويس حتى أمر بتشديد الحراسة على المعسكر، ووصل ألفونس دي بواتيه على رأس المدد المنتظر في أواخر أكتوبر، فاستقر الرأي على الزحف إلى القاهرة ، لا سيما في الظروف التي بدأت تعيشها الدولة الأيوبية .

.الصليبيون يزحفون إلى القاهرة

انتقل الصليبيون إلى الضفة الشرقية للنيل تاركين الأطفال والنساء في دمياط فضلا عن حامية قوية، وشرعوا في الزحف نحو القاهرة عن طريق المنصورة). وتوفي في هذا الوقت الصالح أيوب في المنصورة، وجاءت وفاته في تلك الظروف الحرجة خسارة كبيرة لعدم وجود من يحل محله بسرعة في حكم البلاد وفي مواجهة الصليبيين، لكن ظهرت فجأة زوجته شجر الدر وقد قدرت خطورة الموقف، فأخفت موت زوجها خشية من تضعضع صفوف المسلمين، وأرسلت في الوقت نفسه تدعو ابنه المعظم تورانشاه، وهو الوحيد الباقي على قيد الحياة، من حصن کیفا للقدوم إلى مصر على عجل ليتولى الحكم. وقامت هذه السيدة بإدارة الشؤون العامة في هذه المدة الانتقالية   بالاشتراك مع الوزير فخر الدين يوسف. وعلى الرغم من كافة الاحتياطات 
 التي اتخذتها فقد علم الصليبيون بخبر الوفاة، فانتهزوها فرصة لتوجيه ضربة

 قاضية للمسلمين قبل أن يفيقوا من أثر الصدمة، ويستكملوا استعداداتهم، إذ أن هذه الحكومة المؤلفة من امرأة ووزیر کھل لن تلبث أن تنهار، وأصوا على الزحف نحو القاهرة، والمعروف أن الطريق الذي اختاروه وسلكوه من دمياط إلى المنصورة، كثير الترع، ويعترضه عدد لا حصر له من القنوات وفروع النيل، كان كبرها البحر الصغير او بحر اشموم.وهو عبارة عن مثلث تقع المنصورة فى راسة اى فىالجنوبي الغربي، أي عند نقطة تفرع بحر أشموم من فرع دمياط، ومعنى ذلك أن بحر أشموم كان يعترض طريقهم خلال زحفهم ، وهذا ما أعطى فخر الدین یوسف فرصة طيبة لاستغلال تلك الظروف الطبيعية لعرقلة الزحف، فأبقى معظم قواته خلف البحر الصغير، وأرسل عددا من الفرسان لافتعال الاضطراب في صفوف الصليبيين عند اجتياز كل قناة، ثم نظم هجمات مفاجئة ضدهم، من ذلك ما حدث في (آخر شعبان/ ۷ ديسمبر) من قيام ستمائة فارس من الجيش الأيوبي بمهاجمة الصليبيين بين فارسكور وشر مساح)، على أن ما من هجوم نجح في وقف الزحف الصليبي، وتقدم الملك لويس التاسع ببطء وحذر حتى وصل إلى البرامون الواقعة بین شرمساح والمنصورة في (7 رمضان 14 ديسمبر) وعسكر على ضفاف البحر الصغير تجاه المنصورة، وفصله بحر أشموم عن المسلمين



 بداية هزيمة لويس التاسع وأسره 

اختار لويس التاسع أن يزحف بجيشه جنوبا على الناحية الشرقية لفرع دمياط، وهو نفس الطريق الذي سلكته حملة جان دي برين من قبل، متتبعة فرع النيل جنوبا، فتحرك في ۲۰ نوفمبر سنة ۱۲۲۹ م في المنطقة التي أطلق عليها " جزيرة دمياط "  ، وهی التي يحدها الماء من ثلاثة جهات : بحيرة المنزلة شرقا، وفرع دمياط غربا ، وبحر أشموم المعروف اليوم باسم البحر الصغیر جنوبا، حيث سار الملك ببطء وبحذر شديد ، وتوقف أكثر من مرة بسبب العقبات المائية والطينية التي تخلفت عن مياه الفيضان ، فضلا عن مياه الفيضان، فضلا عن هجمات الخيالة المصريين، بالاضافة إلى ما عانوه بسبب الرياح الشديدة التي واجهتهم. فاستغرق زحف الحملة من دمياط إلى فارسكور الحالية ثلاثة عشر يوما وهي مسافة لا تزيد عنثمانية وأربعون كيلومتر" ، في الوقت الذي أقام فيه الأمير فخر الدين في المنصورة وأخذ ينظم منها الهجمات المضادة ضد الصليبيين مستغلا وقوع بحر أشموم بينه وبينهم يعوق تقدمهم ويعترض طريقهم".

وفي أوائل ديسمبر نجحت فرقة من الجيش الإسلامي في مهاجمة الصليبيين بين فارسكور وشرمساح ، فقتلت بعض الصليبيين وأسرت أعدادا منهم أرسل بعضهم تباعا إلى القاهرة" ، ولكن الصليبيين واصلوا السير جنوب، وسارت بالقرب منهم في النيل سفنهم تحمل لهم المؤن والزاد من دمياط، ووصلوا في ۲۱ ديسمبر إلى رأس " جزيرة دمياط" وهي نقطة تفرع بحر أشموم من فرع النيل قبالة المنصورة، ولم يعد يفصلهم عن المسلمين سوی بحر أشموم ، وبذلك يكونون قد قضوا شهر كاملا في مسيرهم من دمياط الى هذه النقطة .
ولم تلبث الصعوبات أن واجهت الملك الفرنسي وجيشه عندما وجد نفسه شبه محصور في تلك المنطقة، لا يستطيع العبور إلى المنصورة، والمسلمون أمامه على الضفة الغربية للنهر، لكن ما قامت به الخيالة الأيوبية من محاولة لاجتياز البحر الصغير لمهاجمة مؤخرة الجيش الصليبي، أحبطها الصليبيون.
وفي (4 ذي القعدة 647 / 8فبراير۱۲۰۰م) استطاع الجيش الصليبي أن يعبر بحر أشموم عن طريق مخاضة سلمون بمساعدة أحد الأقباط) وفاجأ الداوية المعسكر الأيوبي، وافتقر فخر الدین یوسف إلى الوقت اللازم لجمع رجاله لصد الهجوم، ولم يلبث أن وقع في كمين نصبه له الداوية، وتفق المسلمون يمينا وشمالا، وقتل على الأثر عدد كبير منهمومنهم فخر الدين  وهرب آخرون إلى المنصورة ليحتموا وراء أسوارها «وكادت أن تكون الهزيمة بالكلية »


هزيمة الصليبيين في المنصورة

أضحى لروبرت أرتوا السيطرة على المعسكر الأيوبي، فاغتر بقوته، وتابع زحفه إلى المنصورة لاقتحامها والقضاء على الجيش الأيوبي، وأعرض عن توسلات الداوية بأن ينتظر وصول الملك مع الجيش الرئيس، ونصحه بعضهم بالحيطة والحذر، ثم بادر باقتحام المنصورة. تولی رکن الدین بیبرس عملية الدفاع عن المدينة وهو أحد قادة المماليك الصالحية، نسبة إلى الصالح أيوب، فوع رجاله على نقاط التقاطع في الشوارع ثم ترك الفرسان الصليبيين يتدفقون على المدينة مجتازين الباب الوحيد الذي أمر بفتحه، وإذ توغل هؤلاء داخل المدينة ووصلوا إلى أسوار القلعة، انقض عليهم المماليك من الشوارع الجانبية، فارتبك هؤلاء ووقعوا على الفور في الفوضى والاضطراب، ولم ينج منهم إلا عدد قليل، وهكذا قضي تماما على مقدمة الجيش الصليبي، وكانت المنصورة مقبرته)، و«أول ابتداء النصر على الفرنج».

جزع الملك لويس التاسع لتلك الصدمة لكنه تمالك نفسه، وبادر إلى إقامة خط أمامي لمواجهة ما يتوقعه من هجوم من قبل فرسان المماليك ضد قواته، كما أقام جسرة من الصنوبر على مجرى البحر الصغير عبر عليه النيل مع رجاله، ووع رماته على الطرف البعيد للنهر حتى يكفلوا الحماية للجند عند عبورهم متى دعت الضرورة إلى ذلك، لكن المماليك لم يتركوه وشأنه، وبادروا إلى شن هجوم على المعسکر الصليبي في (7 ذي القعدة/ ۱۱ شباط)، وقاد الملك المعركة بنفسه وأجبر المسلمين على الارتداد الى الوراء.
لكن موقف الصليبيين أخذ يزداد سوءا بعد ذلك، بعد أن قلت المؤن لديهم وانتشرت الأمراض والحميات بينهم فلقي حتفه عدد كبير منهم بسبب انتشار الطاعون بين الرجال والخيل فلم يكن " يحل عصر أي يوم إلا وكان يصل ما لا يقل عن عشرين أو ثلاثين صندوقا تحوي جثث الموتي" وربما جرى ذلك بسبب تعفن جثث القتلى وتسمم لمياه.

ووصل تورانشاه في هذه الأثناء إلى المنصورة في (۱۷ ذي القعدة 647ه/ ۲۱ فبراير ۱۲۵۰م) بعد أن أعلن سلطانة في دمشق وهو في طريقه إلى مصر، فأعلنت عندئذ وفاة الصالح أيوب، وسلمته شجر الدر مقاليد الأمور في مصر، فأعد خطة عسكرية كفلت له النصر النهائي على الصليبيينوكان وصوله إلى مصر إيذانا بإعادة ارتفاع الروح المعنوية عند المصريين وبين صفوف المماليك «و تیمن الناس بطلعته»فأمر بإنشاء أسطول من السفن الخفيفة ثم نقلها إلى فروع النيل السفلي، وأنزلها في القنوات المتفرعة، فأخذت تعترض طريق السفن الصليبية التي تجلب المؤن للجنود من دمياط، فقطع بذلك الطريق عليها وحال دون اتصال الصليبيين بقاعدتهم دمياط). وقد الصليبيون عددا كبيرة من سفنهم قدرتها المصادر بما يقرب من ثمان وخمسين سفينة «وانقطع المدد من دمياط عن الفرنج، ووقع الغلاء عندهم، وصاروا محصورین لا يطيقون المقام، ولا يقدرون على الذهاب، واستضرى المسلمون وطمعوا فيهم».

أدرك الملك لويس التاسع عندئذ استحالة الزحف نحو القاهرة في ظل هذه الأوضاع، وبدأ يفكر بالعودة إلى دمياط، وفعلا أمر بالارتداد «وأحرق الصليبيون ما عندهم من الخشب، وأتلفوا مراكبهم ليفوا إلى دمياط»، كما أدرك أن عملية الانسحاب لن تكون سهلة، وأن المماليك سوف يطاردون جيشه، لذلك لجأ، قبل أن يبدأ عملية الانسحاب، إلى فتح باب المفاوضات مع تورانشاه على أساس ترك
وفي صباح (۱ محرم 648ه/ه نیسان ۱۲۵۰م) بدأت عملية الانسحاب نحو دمياط، والواقع أنها كانت عملية هروب؛ فقد نسي المهندسون الصليبيون تدمير الجسر الذي أقاموه لاجتياز البحر الصغير، فلم يلبث المماليك أن عبروه وراءهم، وقاموا بعملية مطاردة منظمة، وهاجموهم من كل ناحية .


وبفضل ثبات الملك الفرنسي وحسن إدارته لعملية الانسحاب، وصل الصليبيون إلى شرمساح، لكن هذا الملك خ مريضا، وأحاط المماليك بجيشه من كل جانب، وراحوا يتخطفون أفراده، وشنوا عليهم هجومة عامة عند فارسكور، ولم يقو الملك على القتال، وتم تطويق الجيش بأكمله، وحلت به هزيمة منكرة، وقع كل جنوده تقريبا بين قتلى وجرحى وأسرى، وكان الملك نفسه من بين الأسرى، فسيق مكبة إلى المنصورة، وشجن في دار فخر الدين إبراهيم بن لقمان، وعهد إلى الطواشي صبيح المعظمي بحراسته، وخصص له من يقوم على خدمته).
وحاول السلطان تورانشاه أن يضغط على لويس التاسع لاسترداد ما يحتله 
الفرنج ببلاد الشام خاصة الداوية والاسبتارية ، إلا أن الملك تعلل بأنه لا 

سلطان له على صلیبي الشام )، وليس بوسعه إجبار بارونات الشام ومقدمي الجماعات العسكرية فيها على تسليم شيء فضلا عن أن السلطة العليا في المملكة الصليبية في عكا للإمبراطور فردريك الثاني الذي كان لا يزال حيا وابنه كونراد الذي وحده له الحق في التصرف فيها ، وعندئذ اشتط السلطان في شروط الصلح وطلب أن يدفع الملك "ألف ألف بيزنط ذهبية" ، وهي تعادل خمسمائة الف دينار فداء لنفسه، إلا أن الملك وافق عن دفع هذا المبلغ مقابل فداء أسراه على أن يكون تسليم دمياط ثمنا لفداء الملك نفسه ، فاعتبر الملك تورانشاه هذه المبالغ جزءا من النفقات التي "تحملها هو وأبوه في الحرب ، ووافق لويس التاسع على ذلك.


لويس التاسع فى الاسر كما يصورة الفن الاوربى

تعليقات